top of page
Search

مَقال مُحاضَرةٌ ثَمينةٌ في مَقهى الجامِعة

  • Writer: مينا بشير
    مينا بشير
  • Jul 24, 2022
  • 3 min read

يَومٌ جَديدٌ بينَ أسوارِ جامِعَتي الكنَدية،

يُخَيِّمُ الفُتورُ الصَباحيُّ على المَكان مع نَكهةٍ منَ التَوَتُّر، لقد دنَت الامتِحانات و كلٌّ منا كان يَسعى لاكتِنازِ كلِّ ذَرّةِ تَركيزٍ في ذِهنه، و رائِحةُ القَهوةِ النَفّاثةِ تَغزو المَكانَ و تَختَرِقُ الخَياشيم. كنتُ أنا كَعادَتي جالِسةً على طاوِلةٍ من طاوِلاتِ مَقهى الجامِعة، لم أكُن أدرُس، بل كنتُ أحاوِلُ جاهِدةً تَرتيبَ الفَوضى بداخِلي، كنتُ أحاوِلُ تَرتيبَ أدراجِ الذاكِرةِ علَّني أجِدُ بين دَهاليزي بعضَ السَلامِ الداخِلي. كنتُ أحاوِلُ إسكاتَ الأسئِلةِ العَقيمةِ التي تَطِنُّ في عَقلي.

و بينما كنتُ أتَخَبَّطُ كسَفينةٍ تائِهةٍ بينَ ضِفافِ رأسي إذ بعامِلةِ نَظافةٍ تَرمقُني بنَظرةٍ رَقيقةٍ و تَبتَسِمُ في وَجهي، كانَت تُنَظِّفُ طاوِلَتي بكلِّ تَفانٍ و تُغَنّي بصَوتٍ جَميل. أخّذتُ أتأمَّلُها لوَهلة، كانَت السَعادةُ باديةً مُتَجَلّيةً على مُحَياها. لقد كانَت تلك العامِلةُ تَعرِفُ كل طالِباتِ قِسمي بأسمائِهِن لذلكَ لم أستَغرِب مُطلَقًا عندَما حَيَّتني و نادَتني باسمي. كانَت بمَثابةِ جُرعةٍ منَ المَسَرّةِ التي تَتَخَلَّلُ يَوميَ المُزدَحِم، أو قارِبِ نَجدةٍ يَنتَشِلُني من لُجِّ الهَواجسِ و المَخاوفِ و لو لدَقائِقَ مَعدودة. عندَما وقفَت بجانِبي سألتُها بعَفَويةٍ مُطلَقةٍ و دونَ تَفكير: " كيفَ تُحافِظينَ على ابتِسامَتكِ دائِمًا؟ كيفَ لهذهِ الابتِسامةِ أن تَستَقِرَّ على وَجهكِ و ألا تتَزَحزَحَ مُفسِحةً المَجالَ لتَقطيبةٍ أو عُبوس؟ " صمَتَت لبُرهةٍ ثم أجابَت: " إنَّني سَعيدةٌ مُعظَمَ الوَقت. أقولُ هذا لأنني أعلَمُ أن السَعادةَ الدائِمةَ المُطلِقةَ ليسَ لها وجودٌ في هذه الدُنيا، فلابُدَّ من الكَدَرِ و الحُزن، لابُدَّ منَ المَطَرِ و العَواصِفِ حتى تُشرِقَ الشَمس. "

كانَت تلك العامِلةُ دائِمًا ما تَسحَرُني بحِكمَتِهان عندَما أراها كنتُ أوقِنُ أنَّ اللهَ يجعَلُ سِرّهُ في أضعَفِ خَلقِه. رغمَ بَساطَتِها و بساطةِ مِهنَتِها إلا أنها قد فَهِمَت تلك المُعادَلةَ العَصيةَ التي تُسَمّى الحياة. ابتَسَمتُ في وَجهِها و قبلَ أن أسألَها عن سَببِ سَعادَتِها قالَت: " أنا سَعيدةٌ لأنني لا أقارِنُ نَفسي بأحَد، و لم يَسبِق لي أن نَظَرتُ إلى ما في أيدي الآخَرين. " لقد كان ذلكَ الجَوابَ الشافي الذي لَطالَما بَحَثتُ عنه. في سَطرٍ واحدٍ اختصَرَت تلك المرأةُ البَسيطةُ مَعنى الرِضى، أو بالأحرى المَعنى الخَفي للسَعادة. في ذلك اليَومِ أخبرَتني أنَّ مُقارَنةَ أنفُسِنا بالآخَرين هو نمَطٌ من أنماطِ جَلدِ الذاتِ و تَدميرِها، و الذي يُسَمّى في عِلمِ النَفس بالتَدميرِ الذاتي، بل هو مَرَضٌ مُميتٌ يؤَدّي إلى وَفاةِ الشَغَف.

عَلِمتُ بعد ذلك الحَديثِ الذي دارَ بيني و بينَها أن الشَغَفَ كبَصمةِ اليَد، و أنني إن أرَدتُ أن أنعَمَ بتلكَ السَعادةِ النِصف سَرمَدية فإنَّ عَليَّ أن أكتَشِفَ شَغَفي الحَقيقيَّ و أطارِدَه بدلَ سَرِقةِ أجزاءٍ مُتَناثِرةٍ مُقَلدةٍ من تَوَجُّهاتِ الآخَرين. في خِضَمِّ الانفِتاحِ الذي يَغزو هذا العالَمَ من كلِّ صَوبٍ أصبحَ منَ الصَعبِ علينا أن نَنغَلِقَ على ذَواتِنا و أحلامِنا، أصبحَ منَ الصَعبِ على الإنسانِ أن يَنعَمَ ببعضِ الهُدوءِ و أن يَختَلي ببَناتِ أفكاره دونَ استِهلاكِ أفكارِ غيره. وسطَ الشَوارِعِ المُكتَظّةِ بالآخَرين باتَ منَ الصَعبِ علينا أن نَجِدَ ذاتَنا الحَقيقية، بل إن مُعظَمَنا قد أضاعَ شَخصيَّتهُ و حَقيقَتهُ بينَ الحُشود، و ذلك في رأيي هو المُسَبِّبُ الرَئيسيُ لأمراضِنا و عُقَدِنا النَفسية. إننا اليَومَ شَديدوا الانفِتاح، أعيُنُنا مَفتوحةٌ جدًّا على العالَمِ الخارِجي بينَما نَنسى التَعَمُّقَ في ذلك العالَمِ الأكبَرِ المُسَمّى بالذات، نَنسى أن نَستَخرِجَ الكُنوزَ الثَمينةَ القابِعةَ في ثَنايانا. عندَما كَبِرتُ فَهِمتُ أخيرًا مَعنى الحَديثِ الشَريفِ الذي يَقولُ فيهِ نَبيُّنا الكَريمُ صلى اللهُ عليهِ و سلَّم: " رَحِمَ اللهُ امرئًا عَرِفَ قَدرَ نَفسِه. " فالمَقصودُ هنا إدراكُ الأنسانِ بأنهُ كائِنٌ عَظيمُ الشأنِ و مُقَدَّر، و مُقارَنةُ النَفسِ بالآخرين هو تَقليلٌ من شأنِ الذات و سَلبُها حقَّها في التَمَيُّزِ و الاختِلاف، فلا يَجوزُ لنا أن نَقيسَ أنفُسَنا و قُدُراتِنا بمَقاييسِ الآخَرين، لا يَجوزُ أن نُؤَطِّرَ تلكَ الذاتَ الفَريدة، فإنَّ تأطيرَ الذاتِ و تَحديدَها بصورةٍ نمَطيةٍ مُعيَّنةٍ يَعني الحُكمَ عليها الإعدامِ البَطيء.

في خِتامِ هذا المَقال، أقولُ أنَّ السَعادةَ لا تأتي إلا بالرِضا، و أن بِذرةَ الرِضا لا يُمكِنُ أن تُسقى بالمُقارَنات. لقد قرأتُ قبلَ أيامٍ مَقولةً رائِعةً للكاتبِ الفلسطيني أدهم شرقاوي، يَقولُ فيها: " المَسكونُ بالمُقارَنةٍ مَحرومٌ من الطُمَأنينة. " تلكَ عِبارةٌ يَجِبُ تَعليقُها داخِلَ رؤوسِنا.
















 
 
 

Comments


Minabasheer2022 @gmail.com

  • Instagram
  • Facebook

©2022 by Mina Basheer. Proudly created with Wix.com

bottom of page